من الحضارة الفرعونية الأصيلة إلى قمة الابتكار: تشهد صناعة الإلكترونيات في مصر نموًا متسارعًا يجعلها مركزًا إقليميًا واعدًا للتكنولوجيا والابتكار. بفضل البنية التحتية الحديثة والعقول المبدعة، تجذب مصر كبرى الشركات العالمية والشركات الناشئة الباحثة عن بيئة مثالية للإنتاج والتطوير.
عندما يفكر المرء في مصر، قد لا يتبادر إلى ذهنه فورًا وجود صناعة مزدهرة في مجال تكنولوجيا المعلومات والإلكترونيات. لكن من يقيمون في القاهرة يدركون أن شركات دولية كبرى – من بينها شركات أوروبية وألمانية – افتتحت فروعًا لها في مصر منذ سنوات عديدة. العديد من هذه الشركات تتخذ من القاهرة مقرًا لها، حيث نشأ اثنان من أبرز المجمعات التكنولوجية في البلاد:
القرية الذكية بالقرب من الجيزة غرب القاهرة، ومدينة المعرفة في العاصمة الإدارية الجديدة التي يجري بناؤها بوتيرة متسارعة. تقع العاصمة الجديدة على الحدود الشرقية للقاهرة، وتبلغ مساحتها الإجمالية نحو 700 كيلومتر مربع. وقد تم بالفعل تشغيل حرم جامعة مصر للمعلوماتية إلى جانب مبانٍ حديثة مخصصة للشركات. كما تضم المنطقة مختبرات ومراكز أبحاث وابتكار متخصصة في مجال الإلكترونيات والتقنيات الحديثة.
يقع مقر هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات المصرية (إيتيدا) في القرية الذكية غرب القاهرة بالقرب من الجيزة، وهي واحدة من أبرز المناطق التكنولوجية الحديثة في البلاد.
من يمرّ عبر القرية الذكية قد لا يصدق عينيه: فبعد رحلة طويلة وسط زحام القاهرة الشهير، يجد نفسه فجأة في منطقة منظمة بشوارع واسعة وممهدة جيدًا تحيط بها مبانٍ حديثة بتصميمات أنيقة تشبه تلك التي تُبنى اليوم في أكبر مراكز التكنولوجيا حول العالم.
ومن بين هذه المقرات الحديثة، يبرز مبنى شركة Si-Vision في حي شيراتون هليوبوليس بالقاهرة، وكذلك عدد كبير من الشركات المحلية والعالمية. واحدة من أولى الشركات الأجنبية التي أدركت مبكرًا إمكانات السوق المصرية كانت شركة Valeo الفرنسية، والتي بدأت نشاطها في القاهرة عام 2005. واليوم، تمتلك الشركة أكبر مركز تطوير لها في العالم داخل القرية الذكية، ويعمل فيه أكثر من 3000 موظف، مما يجعلها أكبر جهة توظيف في المنطقة. كما تضم القرية الذكية أيضًا فروعًا لكبرى الشركات العالمية مثل Bosch وSiemens وZTE وMicrosoft وDell، إلى جانب العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة، خاصة في مجال الأنظمة المدمجة (Embedded Systems)، مما يجعلها بيئة نابضة بالابتكار والنمو التقني.
القطاع ينمو بوتيرة سريعة:
يقول مهندس أول مشروعات أحمد علاء من هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات المصرية :
»قطاع تكنولوجيا المعلومات والإلكترونيات في مصر ينمو بنسبة 17٪ سنويًا.«
ويتوقع المهندس أحمد علاء أنه بحلول العام المقبل سيكون هناك مئات من الشركات المحلية والدولية في مجالات الإلكترونيات المتقدمة وتصميم الأنظمة المدمجة داخل مصر.
Si-Vision… ريادة مصرية في عالم أشباه الموصلات
تأسست شركة Si-Vision عام 2007 في القاهرة وتُعد أكبر شركة مصرية متخصصة في مجال أشباه الموصلات. وتتمحور خبراتها حول تطوير تقنيات الاتصال اللاسلكي، وإدارة الطاقة، وواجهات الاتصال عالية السرعة، ويعمل ضمن فريقها ما يقرب من 900 مهندس.
يقع المقر الرئيسي للشركة في حي شيراتون هليوبوليس، ومنذ عام 2015، تعمل سايفيجن حصريًا مع شركة سينوبسيس العالمية، ما عزز مكانتها كشريك استراتيجي في مجال التصميم الإلكتروني المتقدّم. يقول م. أحمد صلاح، نائب الرئيس التنفيذي للشركة:
»منذ ذلك الحين، نمونا بسرعة كبيرة«.
ويضيف صلاح بفخر أن نجاحات صناعة أشباه الموصلات في مصر بدأت تحظى باعتراف عالمي، مشيرًا إلى أن التحالف العالمي لأشباه الموصلات (GSA) أسس في عام 2022 فرعًا خاصًا بمصر. وبالتعاون مع هيئةإيتيدا، تسعى كل منSi-Vision وSynopsys إلى توسيع أنشطة تصميم الدوائر المتكاملة (ICs) والأنظمة الإلكترونية في مصر.
وفي عام 2018، أطلقت الشركة أكاديمية سايفيجن لتدريب الطلاب على أعلى مستوى — وبشكل مجاني. ويقول صلاح:
«نحن لا نُلزم الخريجين بالعمل معنا بعد التخرج، بل نتيح لهم حرية اختيار الجهة التي يرغبون في الانضمام إليها. هدفنا أن نُغني السوق بالمهندسين المؤهلين، ونُسهم في دفع صناعة أشباه الموصلات في مصر إلى الأمام».
هناك العديد من الأسباب التي تفسر وجود هذا العدد الكبير من الشركات في مصر — بما في ذلك الشركات الأوروبية والألمانية — وكلها تتكامل لتجعل من البلاد وجهة جذابة للاستثمار في التكنولوجيا والإلكترونيات. من أهم هذه الأسباب العدد الكبير من المهندسين المصريين المؤهلين على أعلى المستويات، والذين لا يقلّون كفاءة عن نظرائهم في أوروبا أو الولايات المتحدة أو آسيا.
ويشمل ذلك مهندسي الإلكترونيات العاملين في مجالات تصميم أشباه الموصلات، وأدوات تصميم الدوائر الإلكترونية والاختبارات، وتطوير الأنظمة المدمجة.
في المجمعات التكنولوجية مثل القرية الذكية ومدينة المعرفة حيث تعمل إيتيدا على إنشاء مراكز مماثلة لها في مدن أخرى مثل الإسكندرية وأسيوط — تتواجد شركات محلية ودولية جنبًا إلى جنب مع الجامعات والمختبرات البحثية. ويُعدّ التعاون بين القطاع الأكاديمي والصناعة عنصرًا رئيسيًا في هذا النظام البيئي. هذه المجمعات لا توفر فقط مبانٍ حديثة ومكاتب متطورة وبنية تحتية متكاملة، بل تتيح أيضًا إمكانية الإنتاج والتصنيع داخلها.
فمن تجميع لوحات الدوائر الإلكترونية إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد ، تتوفر جميع الأدوات اللازمة لتطوير النماذج الأولية، واختبارها، وتحويلها إلى منتجات قابلة للإنتاج التجاري. ويمتد نطاق العمل هناك من إنترنت الأشياء (IoT) والصناعة 4.0 إلى الروبوتات والواقعين المعزز والافتراضي.
كما يحصل المستثمرون الذين يختارون العمل في هذه المناطق على دعم حكومي قد يصل إلى 50٪ من تكاليف مكاتب التصميم ومساحات الإنتاج — مما يجعلها بيئة مثالية لنمو الشركات التقنية محليًا وعالميًا.
هذا التوجه يجذب عددًا متزايدًا من الشركات الأجنبية إلى مصر، وفي الوقت نفسه تستفيد منه صناعة الإلكترونيات المصرية بشكل كبير وتشهد نموًا ملحوظًا. فكما يُقال: لا شيء يجذب النجاح مثل النجاح نفسه — إذ بدأ العديد من المهندسين المصريين ذوي الكفاءة العالية، الذين غادروا البلاد سابقًا لبناء مسيرتهم المهنية في الخارج، يعودون اليوم إلى مصر للمساهمة في نهضتها التقنية.
يقول م. أحمد علاء من إيتيدا:
»لقد ساهمت أنشطة الهيئة بشكل كبير في تغيير المشهد تمامًا. نرى اليوم عددًا متزايدًا من كبار المهندسين يعودون إلى وطنهم بعد أن أدركوا حجم الفرص المتاحة هنا. إنهم يريدون أن يكونوا جزءًا من بناء صناعة الإلكترونيات في مصر — سواء كـ أساتذة جامعيين، أو مديرين تنفيذيين، أو مؤسسين لشركات ناشئة«.
اتخذ المهندس هشام عرفه المسار نفسه، وهو يشغل اليوم منصب المدير التنفيذي للعمليات (COO) في شركة برايتسكايس المصرية.
تخرّج عام 1994 في تخصص الهندسة الكهربائية من القاهرة، وعمل لاحقًا في شركات عالمية مثل إنتل. وفي عام 2003 عاد إلى مصر، حيث شارك في تأسيس نواة صناعة التكنولوجيا المتقدمة في البلاد.
ثم عاد إلى مجال البحث والتطوير عام 2011 بالانضمام إلى شركة فاليو في مصر، قبل أن ينتقل عام 2017 إلى برايتسكايس، التي كان يعرف مؤسسيها منذ أيام عمله في شركة إنتل. يعمل لدى برايتسكايس حاليا أكثر من 450 موظفًا موزعين بين مصر ودبي والسعودية ونورنبرغ (ألمانيا).
يقول م. هشام عرفه:
»بفضل ما نملكه من مهندسين مصريين مؤهلين على أعلى مستوى، وخبرتنا العميقة في التطوير والتصنيع، نهدف إلى مساعدة صناعة السيارات الأوروبية على أن تصبح أكثر مرونة وسرعة. نحن في مصر نتميّز أصلًا بسرعة الأداء — ومع ذلك نحافظ على مستوى جودة مرتفع جدًا، وهذا يجعل التعاون مثاليًا للطرفين«.
وجهة النظر ذاتها يشاركها المهندس صفيّ الدين خليل، الرئيس التنفيذي لشركة سايتك المصرية المتخصصة في الأنظمة المدمجة، إذ يقول:
»كنت أدرك جيدًا مزايا مصر كموقع استراتيجي — وأهمها وجود عدد كبير من المهندسين الموهوبين. مصر هي بلد المهندسين، حتى وإن لم يُعرف ذلك بعد على نطاق واسع في ألمانيا.«
أسس خليل شركة سايتك عام 2019 في القاهرة، وتتخذ الشركة مقرًا لها في القرية الذكية. وهي متخصصة في تطوير الأنظمة المدمجة لصناعة السيارات وإجراء الاختبارات التقنية عليها. ويؤكد خليل أن العمل من مصر لا يشكل أي عائق:
»شحن النماذج الأولية إلى القاهرة يستغرق أسبوعين إلى ثلاثة فقط، ويتم بسلاسة تامة — نحن أيضًا نجري اختبارات رادار لصالح أحد عملائنا الألمان في قطاع السيارات — وإذا نجحت اختبارات الرادار، فاعلم أن كل شيء ممكن!»
ويضيف المهندس صفيّ الدين خليل، الرئيس التنفيذي لشركة سايتك:
»نشهد طلبًا قويًا على منتجات إنترنت الأشياء (IoT) مثل أنظمة إدارة الأصول، والتتبع، وإدارة الأساطيل، خصوصًا من السعودية«.
ويضيف أن شركته لا تقتصر على تقديم خدمات هندسية متقدمة في مجال الأنظمة المدمجة، بل تطور أيضًا منتجات إنترنت الأشياء الخاصة بها وتسوقها بنفسها.
ويضيف م. صفيّ الدين خليل أن التعاون مع صناعة السيارات الألمانية يحمل أهمية خاصة:
»الشركات الصينية تمارس ضغطًا كبيرًا على الصناعة الألمانية، ما يدفعها لتسريع وتيرة التطوير — لكن الهدف ليس التقليد، بل إيجاد أسلوب ألماني جديد لإعادة تصور التكنولوجيا، ليصبح الأداء أكثر رشاقة وفعالية«.
ولتحقيق ذلك، افتتحت سايتك في عام 2021 فرعًا لها في لودفيغسبورغ بألمانيا، »حتى نتمكن من تقديم أفضل ما في الدولتين مصر وألمانيا«
ويبدو أن هذا النهج لاقى نجاحًا كبيرًا — فالشركة نمت بسرعة منذ تأسيسها، وتضم اليوم نحو 250 موظفًا.
من ناحية أخرى، خاضت شركة فورتك قبل نحو عامٍ ونصف تجربة التوسع من ألمانيا إلى مصر، حيث افتتحت مكتبها الأول في القرية الذكية.
ومؤخرًا، انتقلت الشركة إلى مدينة المعرفة.
يقول أولريش إيرمل، المدير العام لشركة فورتك:
»نحن نعمل هنا في محيطٍ يضم مختبرات مجهزة تجهيزًا متقدمًا، ولدينا نحن والجامعة وصول مباشر إليها. هناك تفاعل يومي وتبادل خبرات مستمر بين موظفينا والطلاب وأعضاء هيئة التدريس والأساتذة. كما أن دعم هيئة إيتيدا ممتاز للغاية، فهي تساعد بشكل فعّال في إزالة العقبات البيروقراطية التي قد تواجه الشركات الأجنبية في البداية« تولي هيئة إيتيدا اهتمامًا كبيرًا أيضًا بـ تدريب وتأهيل المهندسين المصريين، خصوصًا في مجال الأنظمة المدمجة (Embedded Systems)، حتى يتمكنوا من الانضمام مباشرة إلى الشركات التقنية بعد تخرجهم.
أما الشركات التي ترسل موظفيها للمشاركة في هذه البرامج التدريبية، فلا تتحمل أي تكلفة إذا قامت بتوظيفهم بعد الانتهاء من التدريب.
هذا النظام يعود بالنفع على جميع الشركات العاملة داخل المجمّعات التكنولوجية — سواء الكبرى مثل فاليو وSTMicroelectronics، أو المتوسطة مثل فورتك المتخصصة في الأنظمة المدمجة.
ويشير أولريش إيرمل، إلى أن هذا العامل تحديدًا كان من الأسباب الرئيسية وراء توسع الشركة في مصر، موضحًا:
»إن وجودنا في القاهرة يمنح مجموعة فورتك بوابة مباشرة إلى العالم العربي بأكمله وإلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. نحن لا ننظر إلى مصر كموقع للإنتاج أو التطوير فقط، بل نراها نقطة انطلاق استراتيجية نحو سوق عربي ينمو بسرعة ويزداد طلبه على الحلول التقنية الحديثة.»
وفي الوقت نفسه، نشأت في هذه المراكز التكنولوجية بيئة حيوية نابضة لريادة الأعمال والشركات الناشئة. فالمبنى الخاص بشركة فورتك اليوم ويضم مكاتبها ومختبراتها، أصبح أيضًا موطنًا لعددٍ من الشركات الناشئة الواعدة وفقا لما ذكره المهندس محمد ماجد والمهندس محمود أسامة من بينها:
شركة أتومس، التي تأسست عام 2024، وطوّرت منصة تعتمد على الذكاء الاصطناعي تُعرف باسم TestFlow، وتعمل على تسريع عملية التحقق من صحة الأجهزة (Hardware Validation) بنسبة تصل إلى 85٪. يقول مؤسسها والرئيس التنفيذي علي كمالي بثقة:
»ما نقدمه ليس مجرد تحسين تدريجي، بل ثورة حقيقية في مجال التحقق التقني!«
وفي الجهة المقابلة من المبنى، توجد شركة PhotonSmart Ecosystem، التي تعتمد على تقنيات الحوسبة الطرفية والاتصالات اللاسلكية مثل Wi-Fi وThread وBluetooth، لضمان التوافق والتكامل بين الأجهزة الذكية من مختلف الشركات داخل بيئات المنازل الذكية. كما توجد أيضًا شركة nrftiX، المتخصصة في تطوير أنظمة الاستشعار المتقدمة. إنها بيئة تقنية ديناميكية ومتكاملة تجمع بين الشركات العالمية، والمؤسسات الأكاديمية، ورواد الأعمال الشباب — لتؤسس معًا مستقبل الابتكار والإلكترونيات في مصر.Bottom of Form ما يجعل مصر وجهة جذابة للشركات التقنية المحلية والدولية ليس فقط موقعها الجغرافي واتصالها القوي بأوروبا، بل أيضًا النمو المتسارع للسوق العربية.
في الختام، نتوجه بخالص الشكر والتقدير إلى كل من ساهم في إخراج هذا العمل
نخص بالشكر شركة فورتك مصر على دعمها المستمر وجهودها في تعزيز المحتوى التقني العربي، وإلى المهندس أحمد علاء والأستاذة شيرين حسين من هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا) على تعاونهم المثمر ودعمهم البنّاء.
كما نوجّه شكرًا خاصًا إلى المترجمة وكاتبة المحتوى شيماء الروبي على دورها البارز في إعداد وصياغة هذا المحتوى بدقة واحترافية عالية.
اقرأ المزيد حول هذا الموضوع