في مقابلة موسعة، يوضح أندرياس مانجلر، مدير التسويق الاستراتيجي في شركة Rutronik أن أوروبا تتصدر عالميًا في صناعة تقنيات أشباه الموصلات (Semiconductors)، لكنها تواجه تحديات متزايدة مع استثمارات الصين الضخمة في هذا القطاع.
فما هو موقف الشركات الأوروبية في هذا المشهد المتغير؟ وما هي الاستراتيجيات المطلوبة للحفاظ على مكانتها التنافسية؟
هذا ما يوضحه السيد مانجلر؛ مدير التسويق الاستراتيجي في شركة Rutronik في هذه المقابلة من خلال توقعات الشركة.
من الضروري تحليل سلاسل التوريد بالتفصيل بشكل دوري ويمكن توضيح ذلك من خلال التفسيرات التالية.
في قطاعات حيوية مثل وسائل النقل الكهربائية، والطاقات المتجددة، والإلكترونيات الصناعية، يواصل المصنعون الأوروبيون وضع معايير رائدة في سوق يُتوقع أن يبلغ حجمه العالمي 9 مليارات دولار بحلول عام 2028 (وفقًا لتقرير Yole Intelligence، 2023)، ومع ذلك، فإن ديناميكيات السوق العالمية تشهد تغيرات متسارعة، حيث تتجه الأنظار بشكل متزايد نحو الصين، التي ضخت في السنوات الأخيرة استثمارات ضخمة في تطوير قطاع صناعة أشباه الموصلات لديها، لا سيما في مجال أشباه موصلات الطاقة.
فما هي تأثيرات ذلك على الشركات الأوروبية؟ وما الذي يتعين عليها القيام به للحفاظ على مكانتها التنافسية في هذا السوق؟
اتخذت ” أرض الشمس المشرقة “ خلال السنوات الأخيرة، خطوات واضحة ومنهجية تهدف إلى ترسيخ مكانتها كشركة رائدة في السوق العالمية في إنتاج أشباه موصلات الطاقة (Semiconductors). وتحتل تقنيات كربيد السيليكون (SiC) وتقنيات الفجوة العريضة الأخرى (Wide Bandgap Technologies) موقعًا محوريًا ضمن الأجندة الصينية في مجالات التنقل الكهربائي، الطاقات المتجددة، وبنية الشحن التحتية. ولم يكن هذا التوجه وليد الصدفة، بل هو قرار استراتيجي واعٍ، اختارت الصين من خلاله أن تجعل هذه التقنيات حجر الأساس لنموها الاقتصادي والتكنولوجي المستقبلي.
في قطاعي وسائل النقل الكهربائي والطاقة المتجددة، أصبحت الصين بالفعل في صدارة المشهد العالمي. ويُعد النمو السريع في سوق السيارات الكهربائية أحد أبرز ملامح هذا التقدم، حيث تجاوزت نسبة السيارات الكهربائية الجديدة 40% من إجمالي تسجيلات المركبات في عام 2024
وسجلت شركة BYD المصنعة للسيارات ارتفاعًا بنسبة 45.9% في مبيعاتها خلال سبتمبر 2024 مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق.
وتكتسب أنظمة الشحن السريع والمحولات عالية الكفاءة أهمية خاصة في هذا السياق، حيث تعتمد بشكل أساسي على مكونات مصنوعة من كربيد السيليكون (SiC). إلى جانب ذلك، ضخت الصين استثمارات ضخمة في تطوير البنية التحتية للشحن، القطارات فائقة السرعة، ومحطات توليد الطاقة بالرياح والطاقة الشمسية، وهي مجالات تلعب فيها تقنيات SiC أيضًا دورًا محوريًا.
ما يلفت الانتباه بشكل خاص في المشهد الصيني هو أن تصنيع أشباه موصلات الطاقة لا يخضع لنفس القيود التصديرية المفروضة على تقنيات الإلكترونيات الدقيقة الأخرى، مثل المعالجات المتقدمة. وهذا يعني أن الصين تتمتع بإمكانية وصول غير محدودة إلى أحدث تقنيات التصنيع المطلوبة لإنتاج كربيد السيليكون (SiC) وغيره من أشباه موصلات الطاقة (Semiconductors). تُعد هذه الحرية الجيوسياسية عاملاً حاسمًا يمنح الصين أفضلية تنافسية كبيرة مقارنة بالدول الأخرى.
تعتمد الصين على نهج التكامل الرأسي الكامل في سلسلة القيمة، حيث لا تقتصر على دور المصنع، بل تلعب أيضًا دور المطور والمبتكر للتقنيات الرئيسية. وتدعم الحكومة الصينية هذه الاستراتيجية عبر الإعانات والبرامج الموجهة للشركات الناشئة، مما يساهم في تسريع تطوير وتطبيق تقنيات SiC والتقنيات ذات الصلة في مختلف القطاعات الصناعية، بدءًا من تقنيات السكك الحديدية وصناعة السيارات وصولاً إلى الطاقات المتجددة وبنية الاتصالات التحتية.
يكمُن الفارق الأساسي في هذا النهج في أن سلسلة القيم تتمتع بدرجة عالية من الاستقرار والموثوقية، حيث تتم جميع خطوات الإنتاج تحت سيطرة جهة واحدة، بدءًا من إنتاج الركيزة (Substrate) إلى الطبقات الفوقية (Epitaxy)، مرورًا بـ معالجة الشرائح (Chip Processing)، وتصميم الصمامات الثنائية (Diode Design)، وتغليف الوحدات (Module Packing)، وحتى النظام النهائي (Final System Integration). إلا أن هذا النموذج يتطلب استثمارات ضخمة يصعب على الشركات تمويلها دون دعم حكومي مباشر، مما يزيد من صعوبة تطبيق هذا النهج في مناطق أخرى من العالم دون تدخل الدولة. لكن من ناحية أخرى، فإن هذا التكامل الرأسي يحمل خطر التوقف الكامل للإنتاج في حال تعرّض أي جزء من سلسلة التوريد لمشكلة غير متوقعة مثل الكوارث الطبيعية أو الحرائق أو الاضطرابات السياسية، وهو ما قد يؤدي إلى توقف الإنتاج بالكامل في وقت قصير جدًا.
عند التعمق في النظام البيئي العالمي لسلسلة توريد كربيد السيليكون (SiC)، يتضح أن الشركات الرائدة عالميًا في هذا المجال، مثل Rohm وWolfspeed وSTMicroelectronics وOnsemi، تعتمد أيضًا على استراتيجيات التكامل الرأسي. بالرغم من وجود تداخلات في عمليات التوريد، خاصةً في ما يتعلق بركيزة SiC. فعلى سبيل المثال، تقوم شركة SiCrystal (وهي جزء من مجموعة Rohm) بتوريد الركائز إلى STMicroelectronics وRohm وOnsemi، لكن تختلف درجة الاعتماد بين هذه الشركات: Rohm تعتمد على التوريد الداخلي المباشر من SiCrystal. أما STMicroelectronics وOnsemi فتعتمدان على اتفاقيات طويلة الأمد مع SiCrystal لضمان استمرارية التوريد. وما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن ركائز SiC لا يمكن خلطها، بمعنى أنه في حال حدوث أي خلل في الإمداد، يكون من الضروري استبدال الركائز بالكامل لاستمرار عملية الإنتاج، ما يجعل من استقرار سلسلة التوريد مسألة حاسمة في هذه الصناعة.
في حين تظل أوروبا رائدة في العديد من مجالات تكنولوجيا أشباه الموصلات (Semiconductors)، فإن التحدي واضح: فالمنافسة من جانب الصين لا تتشكل من الناحية التكنولوجية فحسب، بل أيضا من الناحية السياسية والاقتصادية. لقد أثبتت الشركات المصنعة الأوروبية مثل Infineon وSTMicroelectronics وBosch نفسها كقادة في مجال الابتكار في تطوير أشباه الموصلات الكهربائية المزودة ب SiC وGaN. لذا تعد هذه التقنيات ضرورية لتطوير وتوسيع الأسواق المستقبلية مثل الطاقات المتجددة ووسائل النقل الكهربائي والبنية التحتية للشحن السريع. ومع ذلك فإن التقدم التكنولوجي وحده لن يكون كافيا للبقاء في المنافسة العالمية.
يظل التفوق التكنولوجي هو السلاح الأقوى الذي تمتلكه أوروبا في مواجهة التحديات العالمية. وتواصل شركات رائدة مثل Infineon وSTMicroelectronics وBosch دفع حدود الابتكار من خلال تطوير تقنيات SiC وGaN، وهما مادتان تتميزان ليس فقط بفعاليتهما العالية في كفاءة الطاقة، بل أيضاً بقدرتهما على تحمل درجات الحرارة المرتفعة وبخصائصهما العازلة الممتازة. ولهذا السبب، أصبحت هذه التقنيات في قلب التحولات الحاصلة في مجالي التنقل والطاقة.
ولتعزيز هذا التفوق التكنولوجي وترسيخ مكانة المصنّعين الأوروبيين في السوق العالمية، يمكن تبنّي الاستراتيجيات التالية:
توسيع قدرات التصنيع المحلي: إن تعزيز الطاقة الإنتاجية الخاصة بتقنيات SiC وGaN على المستوى الأوروبي يُسهم في الحد من الاعتماد على الموردين الآسيويين، مما يعزز من قدرة المصنعين الأوروبيين على التكيف مع الاضطرابات المحتملة في سلاسل الإمداد العالمية، ويدعم استقرار الإنتاج واستمراريته.
الاستثمار في البحث والتطوير: يمثل الاستثمار المستمر في البحث والتطوير محورًا أساسيًا للحفاظ على الريادة التكنولوجية. فابتكار مواد جديدة وتقنيات تصنيع متقدمة، مثل أكسيد الجاليوم (Ga₂O₃)، يفتح آفاقًا جديدة لتحقيق ميزة تنافسية مستدامة على المدى الطويل، ويسهم في تأسيس قاعدة متينة للابتكار المستقبلي.
دمج التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: يُعدّ دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في عمليات الإنتاج والتحليل السوقي عاملًا حاسمًا لتعزيز القدرة التنافسية. ومن خلال تطوير نماذج ذكاء اصطناعي مخصّصة، كما هو الحال لدى خبراء Rutronik Business Analytics، أصبح بالإمكان إنشاء توقعات دقيقة وتصميم سيناريوهات مبنية على تحليلات متقدمة للتخصيصات المحتملة، ما يسمح بوضع خطة فردية فعالة للإجراءات المطلوبة وتحقيق أفضل استجابة للتغيرات في السوق.
تلعب السياسات الحكومية دورًا جوهريًا في تعزيز القدرة التنافسية للمصنّعين الأوروبيين، إذ يُعدّ الدعم النشط والموجّه عاملًا أساسيًا للحفاظ على الريادة التكنولوجية والاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل في قطاع أشباه الموصلات. ومن هذا المنطلق، تبرز مجموعة من التدابير السياسية الضرورية، من أبرزها:
تعزيز البحث والتطوير عبر شراكات استراتيجية: على غرار ما تقوم به الصين، يمكن لأوروبا أن تستفيد من تكثيف جهود البحث المشترك وبناء شراكات استراتيجية على امتداد سلسلة القيمة بأكملها. يسهم هذا النهج في تسريع تطوير واستخدام تقنيات مثل SiC وغيرها من المواد المتقدمة في الصناعات الأوروبية، مما يدعم الابتكار ويُسرّع من وتيرة إدماج هذه الحلول في مختلف التطبيقات الصناعية.
الدعم المالي والاستثمار في قدرات الإنتاج المحلي: يتطلب تعزيز الإنتاج الأوروبي لأشباه الموصلات (Semiconductors)، ولا سيما كربيد السيليكون (SiC)، توفير حوافز مالية مدروسة تشجع الشركات على الاستثمار في بناء وتوسيع منشآتها الإنتاجية داخل أوروبا. وتساعد هذه التدابير في تقليل الاعتماد على الموردين الأجانب، وتعزيز الاستقلالية الصناعية، وضمان استقرار سلاسل التوريد في مواجهة الاضطرابات المحتملة.
من خلال هذه الخطوات، تستطيع أوروبا ترسيخ مكانتها كأحد الفاعلين الرئيسيين في صناعة أشباه الموصلات على المستوى العالمي، وضمان استمرارية تفوقها التكنولوجي في ظل المنافسة المتزايدة.