ورغم القيود الأميركية الصارمة على تصدير تقنيات الذكاء الاصطناعي، تسعى الصين إلى بناء منظومة مكتفية ذاتيًا، تشمل الرقائق، وأطر العمل البرمجية، ونماذج اللغة واسعة النطاق، وذلك في محاولة لتقليل اعتمادها على الخارج.
ووفقًا للدراسة، فإن المشهد الصيني يتميز بـ قلة اللاعبين على مستوى القاعدة الشعبية، لكن كثافة وتقدمًا ملحوظًا على مستوى القمة، أي بين الشركات الكبرى ومراكز الأبحاث المدعومة حكوميًا.
تُبرز الدراسة التي أعدّتها ريبيكا أرسيساتي وويندي تشانغ وأنتونيا حميدي كيف تضع الحكومة الصينية الذكاء الاصطناعي في صميم استراتيجيتها التقنية، من خلال دعم مركّز وتوجيه استثمارات ضخمة نحو هذا القطاع. ويُلاحظ أن قطاع أشباه الموصلات يحظى باهتمام خاص، إذ تُعدّه بكين أساسًا لتحقيق الاستقلال التكنولوجي. وتلعب شركة هواوي دورًا محوريًا في هذا المسار، عبر شراكات وثيقة مع مُصنّعي الرقائق المحليين. وقد بدأت الشرائح الصينية المخصصة للذكاء الاصطناعي بالظهور في السوق، لكن الدراسة تُشير إلى أنها لا تزال متأخرة تقنيًا مقارنةً بمنتجات الشركات الغربية الرائدة مثل NVIDIA، لا سيما من حيث الأداء والكفاءة.
نماذج لغوية صينية في سوق محلي محمي
رغم العقبات في مجال العتاد، يشهد الذكاء الاصطناعي في الصين تقدمًا في تطوير نماذج اللغة واسعة النطاق، بفضل شركات مثل DeepSeek التي تستفيد من السوق المحلية المحمية.
مع ذلك، تشير دراسة MERICS إلى أن مستقبل منظومة الذكاء الاصطناعي في الصين لا يزال مرتبطًا بعوامل خارجية حاسمة. وتشمل نقاط الضعف محدودية الوصول إلى الرقائق المتقدمة، ومسألة محدودية المشاركة الصينية في مجتمعات المصادر المفتوحة العالمية، والتي تُعد عنصرًا محوريًا في تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وفيما تُواصل الولايات المتحدة فرض قيود تصديرية صارمة على التقنيات عالية الأداء، ترد بكين بسياسات صناعية هجومية واسعة النطاق، في محاولة لتعزيز استقلالها التكنولوجي وتسريع بناء منظومتها الخاصة.
من القاعدة إلى القمة: استراتيجية الصين في مجال أشباه الموصلات
يمثل قطاع أشباه الموصلات محورًا أساسيًا في طموحات الصين لتحقيق السيادة التكنولوجية، رغم طبيعته كثيفة رأس المال. ومن خلال استثمارات ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات – من أبرزها تمويل "الصندوق الكبير" – تسعى بكين إلى تطوير وتصنيع رقائق الذكاء الاصطناعي محليًا. تتولى هواوي قيادة ما يُعرف بـ "الفريق الوطني للرقائق"، بالتعاون الوثيق مع شركة SMIC المتخصصة في التصنيع التعاقدي. ورغم إحراز تقدم ملحوظ، لا تزال الصين متأخرة بفارق كبير عن شركة Nvidia، خصوصًا في تقنيات التصنيع المتقدمة، مثل الذاكرة، التغليف (Packaging)، وتكامل البرمجيات مع العتاد.
تهدف أطر عمل مثل PaddlePaddle (Baidu) وMindSpore (Huawei) إلى تقديم بدائل لـ TensorFlow وPyTorch. ومع ذلك، يُفضل عدد كبير من المطورين الصينيين الاستمرار في استخدام معايير المصدر المفتوح الدولية، التي تشارك فيها شركات صينية كبرى، ومنها هواوي، بشكل نشط. ويُعتبر هذا المجال – الذي لا يزال غير منظَّم بوضوح من قبل الدولة – نقطة ضعف من جهة، وفرصة استراتيجية من جهة أخرى، تسمح للصين بالانفتاح والمساهمة في البيئة التقنية العالمية مع الحفاظ على خصوصيتها التكنولوجية.
في المقدمة: الصين تلحق بركب نماذج اللغة الكبيرة
تُظهر الدراسة أن الصين تحقق تقدمًا لافتًا في مجال نماذج اللغة واسعة النطاق (LLMs)، إذ طورت شركات مثل DeepSeek نماذج فعالة أثارت اهتمامًا دوليًا متزايدًا، لا سيما لقدرتها على تقديم أداء جيد مع استهلاك منخفض للموارد مقارنة بنظيراتها العالمية. على عكس النهج التقليدي القائم على الإعانات، يُركّز الدعم الحكومي الصيني بشكل أكبر على توفير بنية تحتية قوية، مثل إتاحة قوة حوسبة عالية بتكاليف معقولة، مما يمنح المطورين أساسًا تقنيًا متينًا. وتُسهم عدة عوامل في تسريع وتيرة التطوير، مثل نماذج المصدر المفتوح التي تسهل التجريب والتطوير، والسوق المحلية المحمية التي تُوفر بيئة آمنة للنمو دون منافسة مباشرة من الشركات الغربية.
خيارات أوروبا في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي
بينما تتبنى الصين نهجًا تقوده الدولة بقوة، ترى دراسة MERICS أن الذكاء الاصطناعي في الصين هو مشروع طويل الأمد بدوافع جيوسياسية، مع استمرار فجوة الأداء مع الولايات المتحدة. ورغم ذلك، فإن التركيز الصيني على تطوير التطبيقات يمثل نهجًا عمليًا قد يحقق نتائج مؤثرة. ورغم أن فكرة تطوير "يورو ستاك" (نظام بيئي أوروبي مستقل بالكامل) تحظى بدعم سياسي، إلا أنها تُعد غير واقعية من الناحية التكنولوجية والاقتصادية. وبدلًا من ذلك، توصي الدراسة بأن تستثمر أوروبا في المجالات التي تمتلك فيها ميزات تنافسية فعلية، مثل الذكاء الاصطناعي الصناعي (Industrial AI)، والنماذج الموفرة للطاقة والمخصصة لتطبيقات محددة.
ترى الدراسة أن سعي الصين للسيادة في الذكاء الاصطناعي هو مشروع استراتيجي طويل الأجل مدفوع بأهداف جيوسياسية واضحة. وعلى الرغم من استمرار الفجوة التكنولوجية بينها وبين الولايات المتحدة، فإن تركيز الصين على تطوير التطبيقات يمثل نهجًا واقعيًا وفعّالًا. في المقابل، يُطرح أمام أوروبا سؤال ملحّ: هل ستكتفي بالمشاركة؟ أم تسعى لتشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي؟ أم تكتفي بمجاراة الركب؟