كان تأثير باسكوال بيستوريو على صناعة الرقائق الأوروبية استثنائيًا، إذ تمكّن من تحويل شركة كانت بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة إلى واحدة من قلائل الشركات الأوروبية التي تتبوأ مكانة عالمية رائدة في مجال تصنيع أشباه الموصلات.
بدأت مسيرته المهنية بشكل متواضع: حيث عمل كبائع لدى موزع في ميلانو، فقد كان يبيع ترانزستورات من الشركة الأمريكية موتورولا، مُستخدما دراجته لأنه لم يكن يمتلك رخصة قيادة.
في وقت لم يكن فيه أحد يعرف ما هو الترانزستور، كانت هذه الوظيفة تتطلب موهبة معينة في البيع، وجرعة كبيرة من التفاؤل، والمثابرة والإصرار – وكل هذه الصفات كانت موجودة في باسكوال بيستوريو منذ ولادته. كما تميز بموهبته التقنية: فقد تخرج من كلية الهندسة الكهربائية في جامعة تورينو للتكنولوجيا عام 1963.
كانت تلك الخطوة مفصلية في مسيرته، التي لم تكن قدرًا محتومًا منذ البداية، لكنها قادته ليصبح أحد أبرز رموز صناعة أشباه الموصلات في أوروبا، وربما نجمها الأهم.
ومع ذلك، لم يكن في تلك المرحلة ميّالًا إلى الجانب التطبيقي بقدر انجذابه إلى الجانب النظري؛ فكلما ازداد الموضوع تجريدًا، ازداد شغفه به. كان حلمه آنذاك أن يصبح مطورًا للإلكترونيات.
ولد بيستوريو في عام 1936 في أجييرا في صقلية. في ذلك الوقت، كانت صقلية ضعيفة اقتصاديًا، وكانت واحدة من أفقر المناطق الأوروبية. ولكن بدعم من عائلته، عمل باسكوال بيستوريو بجد حتى تمكن أخيرًا من الدراسة في جامعة تورينو للتكنولوجيا.
في ذلك الوقت، كان الفارق شاسعًا بين المدينة الصناعية في شمال إيطاليا وقرية أجييرا في صقلية، التي كانت تُعدّ من منظور الشمال منطقة متأخرة تنمويًا. غير أن هذا الواقع لم يُضعف طموح باسكوال بيستوريو، بل زاده إصرارًا على تحقيق النجاح في الشمال وفي صناعة لم يكن يدرك سوى القليلين آنذاك إمكاناتها الهائلة.
ومع ذلك، ظل حبه العميق لجزيرته صقلية رفيقًا له طوال حياته، تمامًا كما انعكس انتماؤه إليها في التزامه القوي بالقضايا الاجتماعية.
ولعل من أكثر لحظات حياته فخرًا وسعادة أنه، بصفته رئيسًا لشركة STMicroelectronics، تمكّن من إنشاء مصنع متطور لأشباه الموصلات بالقرب من كاتانيا في موطنه الأم صقلية. وقد خُصص المصنع لإنتاج دوائر متكاملة للذاكرة غير المتطايرة بتقنية 200 ميكرومتر، وتم افتتاحه رسميًا عام 1997 بحضور رئيس الوزراء آنذاك رومانو برودي. كان ذلك إنجازًا تاريخيًا أدخل أحدث تقنيات الصناعة الإلكترونية إلى جنوب إيطاليا، وساهم في دفع منطقة طالما عانت من ضعف هيكلي نحو مستقبل أكثر تقدمًا.
اعتمدت شركة STMicroelectronics على مادة لم يكن أحد يعرف قيمتها بعد
ففي عام 1996، بدأت الشركة تعاونًا بحثيًا مع جامعة كاتانيا في مجال كربيد السيليكون (SiC)، وهي مادة كانت مجهولة تقريبًا في ذلك الوقت. وبعد عقدٍ من الزمان، وتحديدًا في عام 2006، تمكنت الشركة من تحقيق إنجاز كبير تمثل في تصنيع أول صمامات ثنائية شوتكي من كربيد السيليكون على رقائق بقطر 3 بوصات بدلًا من 2 بوصة، ما شكّل خطوة ثورية في تطوير تقنيات أشباه الموصلات عالية الكفاءة.
ولا تزال STMicroelectronics حتى اليوم من الشركات الرائدة عالميًا في تصنيع مكونات SiC. ففي مايو 2024، أعلنت عن إنشاء حرم كربيد السيليكون الجامعي في كاتانيا؛ وهو أول مجمع متكامل بالكامل في العالم يضم مصنعًا لتصنيع رقائق SiC بقطر 200 ملم. هذا المشروع يُجسّد بوضوح الرؤية البعيدة لباسكوال بيستوريو، الذي آمن مبكرًا بإمكانات هذه التقنية. واليوم، يُعرف هذا الموقع باسم "وادي إتنا"؛ في إشارة رمزية إلى بركان صقلية الشهير وإلى الطاقة المتجددة والابتكار المتدفق من هذه المنطقة.
السنوات الأمريكية في موتورولا
لنعد إلى إيطاليا في أوائل الستينيات، حين كان باسكوال بيستوريو يعمل في بيع ترانزستورات موتورولا في منطقة بيمونتي. لم يمر وقت طويل حتى لفتت موهبته الاستثنائية في المبيعات وشخصيته الجذابة أنظار الإدارة العليا في الشركة، وسرعان ما وصلت أخباره إلى المقر الرئيسي في الولايات المتحدة. استقطبته موتورولا إلى أمريكا، حيث شغل مناصب قيادية متعددة وأثبت كفاءته في تحقيق نتائج تفوق التوقعات. ففي عام 1977 تولّى منصب مدير التسويق الدولي، ثم تمت ترقيته في نوفمبر 1978 إلى المدير العام لقسم أشباه الموصلات الدولية، ليصبح مسؤولًا عن التصميم والإنتاج والتسويق خارج الولايات المتحدة. وكان بذلك أول شخص غير أمريكي يتولى منصب نائب رئيس موتورولا — وهو إنجاز غير مسبوق في تاريخ الشركة آنذاك.
ورغم إعجابه العميق بأساليب الإدارة الأمريكية وإتقانه تطبيقها، ظل قلبه مرتبطًا بأوروبا، ولا سيّما بموطنه صقلية. ومع مرور الوقت، بدأ يتساءل بجدية متزايدة عن السبل الممكنة للمساهمة في تقليص الفجوة التقنية والصناعية بين الولايات المتحدة وأوروبا.
جاءت الفرصة الحاسمة في عام 1980، حين تم تعيين باسكوال بيستوريو رئيسًا لشركة SGS (Società Generale Semiconduttori)، التي كانت آنذاك في وضع مالي صعب، ولا تتجاوز مبيعاتها 100 مليون دولار.
في ذلك الوقت، لم يكن أحد تقريبًا يرغب في تولّي مسؤولية شركة متعثّرة كهذه، ولم يعتقد الكثيرون أن بيستوريو سيتمكّن من إنقاذها، ناهيك عن تحويلها إلى قصة نجاح. لكن من عرفوه عن قرب، كمهندس بارع ومدير دبلوماسي يتمتع بكاريزما عالية ورؤية بعيدة المدى. كانوا يدركون أن إصراره وقدرته على تنفيذ استراتيجياته الطموحة قد يصنعان الفارق بالفعل.
في البداية، عاد بيستوريو بما عُرف حينها بـ "المكنسة الحديدية"، فبدأ بحملة صارمة لإزالة الهياكل غير الفعالة وتنقية الشركة من أوجه القصور التنظيمية. لكن إصلاحاته لم تقتصر على الهدم، بل شملت البناء أيضًا: إذ قام بتحديث المصنع القديم في كاتانيا الذي يعود إلى حقبة شركة ATES، وبدأ في فتح أسواق جديدة أمام الشركة، موجّهًا استراتيجيتها نحو التحول إلى شركة (Broadliner).
في عام 1987، حان الموعد الذي رسّخ اسم باسكوال بيستوريو في تاريخ صناعة أشباه الموصلات. فقد أطلق عملية الاندماج بين شركتي SGS وThomson Semiconductor، مؤسسًا بذلك كيانًا جديدًا حمل اسم SGS-Thomson. ومنذ عام 1998، وبعد أن باعت شركة Thomson حصتها، أصبح الاسم الرسمي للشركة STMicroelectronics — الاسم الذي سيصبح لاحقًا مرادفًا للتفوق الأوروبي في عالم الرقائق الإلكترونية.
وكما كان متوقعًا، تولّى بيستوريو، بشخصيته الكاريزمية ورؤيته الاستراتيجية، منصب الرئيس التنفيذي للشركة الجديدة. مرة أخرى، واجه تحديًا شبه مستحيل: فاندماج شركتين متعثرتين، تحملان ثقافتين مؤسستين مختلفتين تمامًا، كان يُنظر إليه حينها كمغامرة محفوفة بالمخاطر. بل إن تجارب الاندماج السابقة في قطاع أشباه الموصلات كانت غالبًا تنتهي بإخفاقات، حتى في ظروف أفضل بكثير.
لكن النتيجة هذه المرة كانت مختلفة: فقد انتصر تفاؤل بيستوريو الذي لا يعرف الانكسار. وبفضل إيمانه العميق بـ أوروبا الصناعية وقدرته على توحيد الرؤى والثقافات، أصبح يُنظر إليه اليوم باعتباره المهندس الحقيقي لقصة نجاح فريدة من نوعها. لم يقتصر إنجازه على دمج المكونات الإيطالية والفرنسية في كيان واحد متناغم، بل قاد هذا الكيان الجديد إلى مسار نمو متسارع جعل STMicroelectronics واحدة من الشركات الرائدة عالميًا في الابتكار والتقنيات المتقدمة في مجال أشباه الموصلات.
لم يحقق بيستوريو هذا النجاح من خلال تقليد رواد السوق، بل عبر الاعتماد على نقاط القوة الداخلية لشركته وتطويرها باستمرار. فقد كان هدف "المهندس" – وهو اللقب الذي كثيرًا ما أُطلق عليه – أن تلحق أوروبا بالولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، مع ابتكار تخصصات تقنية تميزها عن غيرها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك تقنية كربيد السيليكون (SiC) التي ذُكرت سابقًا، بالإضافة إلى عملية SF-SOI (Fully Depleted Silicon-on-Insulator)، التي تم تطويرها بالتعاون مع CEA-Leti وSoitec، والتي تمثل خطوة مهمة في تحسين أداء واستهلاك الطاقة في الدوائر المتكاملة. وهنا يتجلى جانب محوري آخر من استراتيجيته القيادية: إيمانه العميق بأهمية الشراكات على جميع المستويات. فقد كان يرى أن البحث والتطوير لا يمكن أن ينجح إلا من خلال تنسيق الجهود على مستوى الاتحاد الأوروبي بأكمله، ولهذا شارك بيستوريو بفاعلية في العديد من المبادرات الأوروبية الكبرى، مثل برنامج MEDEA، على أعلى المستويات التنفيذية والسياسية، مؤكدًا أن مستقبل الصناعة الأوروبية لا يُبنى إلا بالتعاون والانفتاح وتكامل الخبرات.
بثبات وبصيرة، ركز ”المهندس“ على البحث والتطوير، حيث خصص له ما يصل إلى 20 في المائة من الميزانية السنوية. وحول ST إلى شركة عالمية لها مصانع في جميع أنحاء العالم – مع التركيز على الكفاءة الأوروبية في مجال التطوير: في كاتانيا وكذلك في كرولز وروسيه وأغرات. ولأن بيستوريو كان يؤمن بضرورة الحفاظ على السيطرة على سلسلة القيمة بالكامل، فقد حرص على تعزيز الأنشطة الخلفية (Back-end) داخل أوروبا — ولو جزئيًا — من خلال الاستثمار في مواقع استراتيجية مثل مالطا، لضمان التكامل الصناعي والاستقلالية التقنية للقارة الأوروبية.
وفي عام 2002، أسست Motorola وTSMC بالتعاون مع ST وPhilips تحالفًا استراتيجيًا عُرف باسم Crolles-2 Alliance، لبناء مصنع رقائق متطور بقطر 12 بوصة، يهدف إلى تطوير عمليات تصنيع متقدمة تتراوح بين 90 و32 نانومتر — خطوة شكلت حينها نقلة نوعية في قدرات أوروبا التكنولوجية ضمن سباق التصغير والتكامل في عالم الرقائق.
الطرح في البورصة
في عام 1994، طرح بيستوريو STMicroelectronics في البورصة في باريس ونيويورك، وحقق في ذلك العام 1994 مبيعات بلغت 2.6 مليار دولار. في السنوات التالية، كان التركيز على إلكترونيات الطاقة (الطاقة، الطاقة الذكية)، الإشارات المختلطة، التناظرية، أجهزة الاستشعار وSoCs للاستخدام في الأسواق النامية مثل الهواتف المحمولة والسيارات والصناعة.
لكن كانت هناك أيضًا تحديات كبيرة. لا توجد شركة أشباه موصلات في العالم يمكنها أن تتجنب الدورات الاقتصادية، التي تؤثر بشكل خاص على منتجات التخزين، أي الذاكرة غير المتطايرة، بحيث واجهت ST مرارًا وتكرارًا تقلبات حادة وضغوطًا على الأسعار من آسيا. لكن الشركة نمت باستمرار بفضل التنويع.
تحت قيادته، صعدت STMicroectronics إلى صدارة السوق في مجال البطاقات الذكية وEEPROMs، وكانت الشركة رائدة في قطاع مستشعرات MEMS، التي أصبحت اليوم موجودة في كل مكان في الهواتف الذكية والسيارات، وتطورت لتصبح موردًا مهمًا لشركات تصنيع السيارات.
عندما تقاعد باسكوال بيستوريو من منصب الرئيس التنفيذي في عام 2005 وسلم مهامه إلى خليفته كارلو بوزوتي، كانت STMicroelectronics شركة مربحة، وحققت مبيعات بقيمة 8.9 مليار دولار، وكانت في وضع جيد من الناحية التكنولوجية. في ذلك الوقت، كانت الشركة تحتل المرتبة الخامسة بين العشرة الأوائل بعد Intel وSamsung وTexas Instruments وToshiba، وقبل Infineon وRenesas وNEC وNXP وFreescale.
بعد انسحابه من الإدارة التشغيلية، لم يعرف باسكوال بيستوريو طريقًا إلى التقاعد بمعناه التقليدي — فذلك النمط من الحياة لم يكن يومًا جزءًا من شخصيته. بل واصل مسيرته في العطاء الاجتماعي بنفس الحماس الذي ميّز مسيرته المهنية. ففي عام 2005، أسس مؤسسة Fondazione Pistorio، التي كرّسها لدعم مشروعات تعليم الأطفال في المناطق الفقيرة والمحرومة، إيمانًا منه بأن الاستثمار في التعليم هو الطريق الأضمن لبناء مستقبل مستدام وعادل.
وفي الوقت نفسه، بقي حاضرًا بقوة على أعلى المستويات في صناعة الإلكترونيات، حيث لعب دور "رجل الدولة المخضرم" في المبادرات الأوروبية الخاصة بتطوير قطاع الإلكترونيات الدقيقة، مقدّمًا خبرته ورؤيته الاستراتيجية لدعم مسيرة أوروبا نحو الريادة التقنية العالمية.
توفي باسكوال بيستوريو في ميلانو في 26 سبتمبر عن عمر 89 عامًا.
اقرأ المزيد حول هذا الموضوع